
962الاخباري- لم يكن الغلاء الذي شهده الليمون في الأردن هذا الموسم مجرد خلل مؤقت في السوق. خلف الأرقام المتصاعدة والسخط الشعبي المتزايد قصة أعقد من مجرد اختلال عابر في العرض والطلب. في واحدة من أكثر لحظات الموسم حساسية، اختفى صوت رئيس جمعية الحمضيات الأردنية من الفضاء الإعلامي بعد بثه بساعات قليلة على قناة المملكة. لم تكن تلك مقابلة عابرة، بل شهادة موثقة من رجل يقف على خطوط الإنتاج الأولى، ويتحدث من واقع معيش، ويحمل في يده سلسلة من التحذيرات والمراسلات التي لم يُلتفت إليها.
الحذف الذي تم بصمت كامل لم يكن مجرد قرار تقني أو إجراء عابر، بل شكّل لحظة فاصلة في العلاقة بين الإعلام الرسمي والقطاع الزراعي المحلي، وكشف عن حدود ما يمكن قوله حتى حين يأتي الصوت من داخل الميدان لا من خارجه.
أصوات تحذيرية لم تُسمع
من خلال مقابلته مع قناة المملكة، عرض عبد الرحمن الغزاوي تسلسلًا زمنيًا دقيقًا لما جرى. أشار إلى أن جمعيته وجّهت كتابًا رسميًا إلى وزارة الزراعة في الثاني عشر من شباط، حذّرت فيه من موجة ارتفاع متوقعة في أسعار الليمون خلال أشهر أيار وحزيران وتموز، وطالبت بوضع سقف سعري لضبط السوق قبل فوات الأوان. الوثيقة، كما أكد، لم تُقابل بأي رد.
وأوضح الغزاوي أن غياب الاستجابة لم يكن مجرد إهمال، بل جزء من نمط مستمر في إدارة الملف الزراعي، يُقصي الجمعيات المتخصصة، ولا يلتفت للتحذيرات الميدانية، حتى حين تكون مدعومة بأرقام ودراسات.
مقابلة وضعت الحقائق على الطاولة
في اللقاء، قدّم الغزاوي مشهدًا دقيقًا لحالة السوق. قال إن كلفة إنتاج كيلو الليمون للمزارع تتراوح بين 40 و45 قرشًا، لكن الأسعار التي يُضطر لبيعها فيها لا تتجاوز أحيانًا 15 قرشًا. وفي المقابل، يباع الكيلو للمستهلك في السوق بثلاثة دنانير، وأحيانًا أكثر. هذه الفجوة، بحسب وصفه، لا تمثل فقط إخفاقًا في ضبط السوق، بل تكشف عن شبكة من المكاسب غير العادلة، حيث يخسر المنتج، ويتحمّل المستهلك، وتُترك الأرباح الهائلة لفئة محددة في السوق، غير مرئية، لكنها نافذة.
أكد الغزاوي في المقابلة أن جمعيته لم تطالب بوقف الاستيراد لحماية المنتج المحلي فقط، بل طالبت بإيجاد تسعير عادل يوازن بين حقوق المزارع وقدرة المواطن على الشراء، ويمنع الفوضى السنوية التي تكررت في هذا القطاع.
من الاستبعاد المؤسسي إلى الحذف الإعلامي
لم يكن الحذف حدثًا منفصلًا عن مسار أطول من التهميش. أوضح الغزاوي خلال اللقاء أن جمعيته استُبعدت هذا العام من الاجتماعات الرسمية التي تحدد الرزنامة الزراعية، رغم أنها كانت الطرف الموقع على اتفاقيات مماثلة في السنوات الماضية. وقال إن الاستبدال تم باتحاد لا يمثل فعليًا مزارعي الحمضيات، ما جعل الجمعية تعتبر الخطوة قرارًا سياسيًا مقصودًا لإقصاء طرف مهني غير منسجم مع التوجهات الرسمية.
الحذف، في هذا السياق، لم يكن مجرد إزالة مقابلة. بل استمرار لنهج بدأ باستبعاد صوت متخصص من مواقع صناعة القرار، وانتهى بإزاحته من الشاشات الرسمية حين قرر الحديث بصراحة للرأي العام.
الإعلام الرسمي وحدود المسموح
لم تمر المقابلة المحذوفة بصمت تام في أوساط القطاع. فقد أصدرت جمعية الاتحاد التعاونية للمصدرين الزراعيين بيانًا بعد يوم واحد من المقابلة، وجّهته إلى رئيس الوزراء، وضمّنته اتهامات مباشرة لوزارة الزراعة بتشجيع الاحتكار، وإصدار تعليمات تخالف قوانين المنافسة، وتعطيل دور القطاع الخاص. البيان استشهد بسلسلة من الأمثلة بينها ارتفاع أسعار الثوم والموز والخوخ، وأكد أن السياسة الزراعية باتت تُدار بمنطق لا يحمي لا المزارع ولا المستهلك.
البيان لم يكن تعليقًا عابرًا، بل مرافعة دعم ضمنية للرواية التي طرحها الغزاوي، وتأكيد على أن ما قيل في المقابلة لم يكن رأيًا شخصيًا، بل صوت قطاع بأكمله جرى تغييبه عن النقاش.
أن تقوم قناة المملكة بحذف المقابلة دون أي توضيح أو اعتذار أو تعليق، يعني أن المسألة تجاوزت القرار التحريري إلى الإشارة المؤسسية. فاللقاء الذي عُرض ثم اختفى بالكامل من كل المنصات لم يُمنح حق الرد، ولا تم توسيع النقاش حوله، وكأن الرواية البديلة يجب أن تُمحى لا تُناقش.
ما جرى يفتح تساؤلًا أعمق حول موقع الإعلام الرسمي من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وحول مدى استعداده لسماع صوت المزارع حين يتكلم بلغة الأرقام لا المجاملة.
بين من يُنتج ومن يُقرر… من يُحاسب؟
ما قاله الغزاوي خلال المقابلة لم يكن اتهامًا سياسيًا ولا محاولة لافتعال أزمة، بل كان شهادة على واقع السوق، ورسالة وُجهت من الميدان قبل أشهر وتم تجاهلها، ثم حُذفت حين خرجت للعلن.
الصمت هنا لم يكن محايدًا، بل كان قرارًا مؤسسيًا بعدم منح هذه الرواية مساحة للنمو. وهو ما يطرح تساؤلات أكبر حول طبيعة الدور الذي يلعبه الإعلام الرسمي داخل الاردن، ومدى قدرته على تمثيل تعددية الرأي داخل قضايا المجتمع
إذا لم يُسمح لمزارع بالتعبير عن معاناة قطاعه على شاشة ممولة من أموال المواطنين، وإذا تم استبعاد من يُمثل الميدان من الاجتماعات والحوارات، فمن إذًا يتحمل كلفة القرارات التي تنتهي في جيب المستهلك؟